الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
{وَجُنُودُ إِبْلِيسَ} أي شياطينُه الذين كانوا يُغوونهم ويُوسوسون إليهم ويسوِّلون لهم ما هم عليه من عبادةِ الأصنام وسائر فنون الكُفر والمعاصي ليجتمعُوا في العذاب حسبما كانُوا مجتمعين فيما يُوجبه وقيل: متبعوه من عصاة الثَّقلينِ والأوَّلُ هو الوجهُ {أَجْمَعُونَ} تأكيدٌ للضَّميرِ ما عُطف عليه وقوله تعالى: {قَالُواْ} الخ استئنافٌ وقع جوابًا عن سؤال نشأَ من حكاية حالِهم كأنَّه قيل ماذا قالوا حينَ فُعل بهم ما فُعل فقيل قال العَبَدةُ {وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ} أي قالوا معترفين بخطئِهم في انهماكِهم في الضَّلالةِ متحسَّرين معيِّرين لأنفسهم والحال أنَّهم في الجحيم بصددِ الاختصام مع من معهم من المذكورينَ مخاطبين لمعبودِيهم على أنَّ الله تعالى يجعلُ الأصنامَ صالحةً للاختصام بأنْ يُعطيها القدرةَ على الفهم والنُّطقِ.{تالله إِن كُنَّا لَفِى ضلال مُّبِينٍ} إنْ مخفَّفةٌ من الثَّقيلةِ قد حُذف اسمها الذي هو ضمير الشَّأنِ واللام فارقةٌ بينهما وبين النَّافيةِ أي إنَّ الشَّأنَ كُنَّا في ضلال واضح لا خفاءَ فيه ووصفهم له بالوضوح للإشباع في إظهار ندمهم وتحسُّرهم وبيان عِظَمِ خطئهم في رأيهم مع وضوح الحقِّ كما ينبىءُ عنه تصديرُ قَسَمهم بحرف التَّاءِ المُشعرةِ بالتَّعجُّبِ.وقوله تعالى: {إِذْ نُسَوّيكُمْ بِرَبّ العالمين} ظرفٌ لكونهم في ضلالٍ مبين وقيل لما دل عليه الكلام أي ضللنا وقيل للضَّلال المذكورِ وإن كان فيه ضعفٌ صناعيٌّ من حيث إنَّ المصدرَ الموصوفَ لا يعمل بعد الوصف، وقيل: ظرفٌ لمبين. وصيغةُ المضارعِ لاستحضار الصُّورةِ الماضية أي تالله لقد كُنَّا في غاية الضَّلالِ الفاحش وقت تسويتنا إيَّاكُم أيُّها الأصنامُ في استحقاقِ العبادة بربِّ العالمين الذي أنتمُ أدنى مخلوقاتِه وأذلُّهم وأعجزُهم.وقولهم {وَمَا أَضَلَّنَا إِلاَّ المجرمون} بيتمٌ لسبب ضلالهم بعد اعترافِهم بصدوره عنهم لكن لا على معنى قصرِ الإضلال على المُجرمين دونَ منَ عداهم بل على مَعنى قصر ضلالِهم على كونه بسببِ إضلالِم من غير أنْ يستقلُّوا في تحقُّقهِ أو يكون بسبب إضلال الغيرِ كأنَّه قيل: وما صدرَ عنَّا ذلك الضَّلالُ الفاحش إلا بسبب إضلالِهم. والمرادُ بالمجرمين الذين أضلُّوهم رُؤساؤُهم وكُبراؤُهم، كما في قولِه تعالى: {رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا فَأَضَلُّونَا السبيلا} وعن السُّدِّيِّ رحمه الله: الأَوَّلُون الذين اقتدَوا بهم. وأيَّا ما كان ففيه أوفرُ نصيب من التَّعريضِ للذين قالُوا بل وجدنا آباءَنا كذلك يفعلون وعن ابنِ جُريجٍ: إبليسُ وابنُ آدمَ القاتلُ لأنَّه أوَّلُ من سَنَّ القتلَ وأنواعَ المعاصِي.{فَمَا لَنَا مِن شافعين} كما للمؤمنينَ من الملائكةِ والأنبياءِ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ.{وَلاَ صَدِيقٍ حَمِيمٍ} كما نرى لهم أصدقاءَ أو فما لنا من شافعين ولا صديقٍ حميمٍ من الذين كنَّا نعدُّهم شفعاءَ وأصدقاءَ على أنَّ عدمَهما كنايةٌ عن عداوتِهما كما أنَّ عدمَ المحبَّةِ في مثل قوله تعالى: {والله لاَ يُحِبُّ الفساد} كنايةٌ عن البُغضِ حسبما ينبىءُ عنه قوله تعالى: {الأخلاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ المتقين} أو وقعنا في مهلكة لا يخلِّصتا منها شافعٌ ولا صديقٌ على أنَّ المرادَ بعدمهما عدمُ أثرهِما. وجمعُ الشَّافعِ لكثرة الشُّفعاءِ عادةً كما أنَّ إفرادَ الصَّديقِ لقلَّتهِ أو لصحَّةِ إطلاقِه على الجمعِ كالعدوِّ تشبيهًا لهما بالمصادرِ كالحنينِ والقَبولِ وكلمةُ لو في قوله تعالى: {فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً} للتَّمنِّي كليتَ لما أنَّ بينَ معنييهما تلاقيًا في معنى الفرضِ والتَّقديرِ كأنَّه قيل فليتَ لنا كرَّةً أي رجعةً إلى الدُّنيا وقيل: هي علي أصلِها من الشَّرطِ وجوابُه محذوفٌ كأنَّه قيل فلو أنَّ لنا كرةً لفعلنا من الخيراتِ كيتَ وكيتَ ويأَّباهُ قوله تعالى: {فَنَكُونَ مِنَ المؤمنين} لتحتُّم كونِه جوابًا للتَّمنِّي مُفيدًا لترتُّبِ إيمانهم على وقوعِ الكَرَّةِ ألبتةَ بلا تخلفٍ كم هو مقتضى حالِهم، وعطفه على كرَّةً على طريقة للُبسُ عباءةٍ وتقرَّ عينِي كما يستدعيه كون لو على أصلها إنَّما يفيد تحقُّقَ مضمون الجوابِ على تقدير تحقُّقِ كرَّتِهم وإيمانهم معًا من غير دلالة على استلزامِ الكرَّة للإيمانِ أصلًا مع أنَّه المقصودُ حتمًا.{إِنَّ في ذَلِكَ} أي فيما ذُكر من نبأ إبراهيمَ عليه السَّلامُ المشتملِ على بيان بُطلانِ ما كان عليه أهلُ مكَّةَ من عبادةِ الأصنامِ، وتفصيلِ ما يئول إليه أمرُ عَبَدتها يومَ القيامةِ من اعترافِهم بخطئِهم الفاحشِ وندمِهم وتحسُّرهم على ما فاتهم من الإيمان وتمنِّيهم الرَّجعةَ إلى الدُّنيا ليكونُوا من المؤمنين عند مشاهدتِهم لما أزلفت لهم جنَّاتُ النَّعيمِ وبُرِّزتْ لأنفسهم الجحيم وغشيهم ما غشيهم من ألوانِ العذابِ وأنواعِ العقابِ {لآيَةً} أي آية عظيمة لا يُقادرُ قَدرُها موجبةً على عبدة الأصنامِ كافَّةً لاسيما على أهلِ مكَّةَ الذين يدَّعُون أنَّهم على ملَّةِ إبراهيمَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ أنْ يجتنبُوا كلَّ الاجتنابِ ما كانُوا عليه من عبادتها خوفًا أنْ يحيقَ بهم مثلُ العذابِ بحكم الاشتراكِ فيما يُوجبه أو أن في ذكر نبئةِ وتلاوته عليهم على ما هُو عليه من غير أنْ تسمعه من أحدٍ لآيةً عظيمة دالَّة على أنَّ ما تتلوه عليهم وحيٌ صادقٌ نازلٌ من جهةِ الله تعالى موجبة للإيمان به قطعًا {وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّؤْمِنِينَ} أكثرُ هؤلاء الذين تتلُو عليهم النبأَ مؤمنين بل هم مُصرُّون على ما كانُوا عليه من الكُفرِ والضَّلالِ، وأمَّا أنَّ ضمير أكثرُهم لقومِ إبراهيمَ عليه السَّلامُ كما توهَّمُوا فمما لا سبيل إليه أصلًا لظهور أنَّهم ما ازدادوا بما سمعُوا منه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ إلا طُغيانًا وكفرًا حتَّى اجترأوا على تلك العظيمةِ التي فعلُوها به عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ فكيف يعبَّر عنهم بعدم إيمان أكثرِهم وإنما آمنَ له لوطٌ فنجَّاهُما الله عزَّ وجلَّ إلى الشَّامِ وقد مرَّ بقيَّةُ الكلام في آخرِ قصَّةِ موُسى عليه السَّلامُ.{وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العزيز الرحيم} أي هو القادرُ على تعجيلِ العُقوبةِ لقومِك ولكنَّه يُمهلهم بحكمِ رحمتهِ الواسعةِ ليؤمن بعضٌ منهم أو من ذريَّاتِهم. اهـ.
وقيل: المراد بجنود إبليس متبعوه من عصاة الثقلين، واختار بعض الأجلة الأولى وادعى أنه الوجه لأن السياق والسباق في بيان سوء حال المشركين في الجحيم وقد قال ذلك إبراهيم عليه السلام لقومه المشركين فلا وجاهة لذكر حال قوم آخرين في هذا الحال بل لا وجود لهم في القصة وذكر الشياطين مع المشركين لكونهم المسولين لهم عبادة الأصنام، ولا يخفى أن للتعيم وجهًا أيضًا من حيث أن فيه مزيد تهويل لذلك اليوم، وقوله تعالى: {أَجْمَعُونَ} تأكيد للضمير وما عطف عليه.{قَالُواْ} الخ استئناف وقع جوابًا عن سؤال نشأ عما قبله كأنه لما قيل كبكب الآلهة والغاوون عبدتها والشياطين الداعون إليها قيل: فما وقع؟ فقيل: قالوا أي العبدة الغاوون {وَهُمْ} أي الغاوون {فِيهَا يَخْتَصِمُونَ} أي يخاصمون من معهم من الأصنام والشياطين، والجملة في موضع الحال، والمراد قالوا معترفين بخطئهم وانهماكهم في الضلالة متحسرين معيرين لأنفسهم والحال أنهم بصدد مخاصمة من معهم مخاطبين لآلهتهم حيث يجعلها الله تعالى أهلًا للخطاب.
|